الدولة اليهودية.. والسلوك اليهودي!!

الدولة اليهودية.. والسلوك اليهودي!!

بقلم : هاني حبيب

عاد مصطلح "الدولة اليهودية" مؤخراً لواجهة الاشتراطات الاسرائيلية على الجانب الفلسطيني بشكل خاص والمنظومة العربية عموماً، عندما طالبت حكومة إسرائيل باعتراف فلسطيني - عربي بـ "يهودية" دولة إسرائيل، كان ذلك قبيل اجتماع انابوليس وأثناءه وبعده، الأمر الذي أعاد الى الأذهان، بعض النظريات الفكرية والأيديولوجية حول الصهيونية وما بعد الصهيونية والدولة الدينية، وقد طالعت خلال فترة الأعياد، مقالتين تبحثان في هذه المسألة، الأولى بقلم السيد ياسين، والثانية نقاش للمقالة بقلم السيد أمين شلبي، وذلك في صحيفة "الحياة" اللندنية، ورغم أن المقالتين من حجم المقالات العادية، إلا أنهما من الدسامة بحيث شعرت بالإشباع جراء المناقشة الجادة والموضوعية لمسألة في غاية الحساسية، وقد تملكني شعور بضرورة أن يقرأ قادتنا في مستوى المفاوضات هذين المقالين كحد أدنى، مع شعوري القوي بأنهم لن يفعلوا ذلك!.
فمن المتداول على نطاق واسع انه قبل العام 1948، لم يكن هناك "إسرائيليون" بل يهود فقط، والدعوة الى انشاء وطن قومي لليهود، شتت اليهود بين معارض وموالٍ للفكرة التي أطلقها هرتزل، في ذلك الوقت لم يعرف اليهودي بكونه اسرائيلياً، ولم ينظر "الأغيار" أي الأجانب إلى اليهود باعتبارهم اسرائيليين ينتمون إلى اسرائيل لا بمعناها التاريخي كما جاء في الكتب السماوية، ولا من حيث الشكل، وكان اليهودي يهودياً في ديانته وجزءاً من مجتمع يعيش فيه ويحمل جنسيته، وشعور اليهود بالانكماش ومعاداة مجتمعات محيطة بهم دفعهم إلى الانطواء في "غيتوات" حاصروا من خلالها أنفسهم، دون أن يزعج ذلك المجتمع الذي يعيشون فيه - أو لا يعيشون فيه في الواقع، ردة فعل "اليهودي" على معاداة الأجواء المحيطة بهم كانت تنحصر في عنصرين أساسيين، حسب الدراسات ذات الطبيعة المجتمعية، العنصر الأول تمثل في اختيار مهن محددة، تجعل منهم أكثر اختصاصاً من ناحية، وتجعل الآخرين يشعرون بالحاجة لهم، لهذا كانت مهمتهم تختص بالتجارة والمال والتمويل، أما العنصر الآخر، فيتعلق بالأول، ونقصد هنا، ردة فعل نفسية على مجتمع "يحتقرهم" بالرد عليه بأن المجتمع اليهودي الذي يحاصر نفسه، هو في منزلة أرفع وأفضل من المجتمع المحيط بحالة الحصار، انهم لا يقبلون على أية مهنة كان ينظر إليها المجتمع باعتبارها مهنة وضيعة. ردة الفعل النفسية لدى الفرد اليهودي في المجتمعات الغربية، شكلت شخصية اليهودي التي توصف بالتعقيد اجتماعياً، وهي شخصية مركبة بالنظر إلى امتهان مهن "قيادية" في المجتمع واقتصاده وتمويله من ناحية، ونظرة المجتمع الدونية إليه رغم مركزه القيادي والمالي، وباتت اليهودية ليست مجرد ديانة بقدر ما كانت سلوكاً لأقلية ترغب في امتلاك المجتمع من دون أن يكون بوسعها أو بوسع الأغيار الأجانب صهر هذه الأقلية في هذا المجتمع.
وعندما أراد هرتزل جمع اليهود من حول فكرته بانشاء دولة يهودية في فلسطين تجنب جمع اليهود على فكرة يهودية، بل حول فكرة صهيونية، تتجاوز الدين اليهودي الى ايديولوجيا تحيل الغيتو اليهودي في دول اوروبا، الى دولة صهيونية على أرض صهيون ارض الميعاد، لم يكن هرتزل يهودياً متديناً، بل كان علمانياً من الطراز الاول، لكنه استثمر الديانة اليهودية، باعتبار اليهودية باتت سلوكاً، او ديناً جديداً حديثاً يرتبط بالاقتصاد والتمويل، وعناصر الطرد ورد الفعل التي عاشها اليهود في اوروبا.
"السلوك اليهودي" بات نظيراً وتجاوزاً للدين اليهودي بالنسبة للاقليات اليهودية في غيتوات اوروبا، هذا ما استثمره هرتزل لدى دعوته للصهيونية. بعض المفكرين اليهود في ذلك الوقت، كان يشير ان هذه الاقليات ليست بحاجة الى دولة لانها بحاجة اكثر الى "الكرامة" اذ رغم الثروات التي جمعها اليهود، الا ان المجتمع المحيط بهم ما كان يقدم لهم الاحترام التي تفرضها مثل هذه الثروات لو امتلكتها اقليات اخرى، رد فعل اليهودي رغم الثراء كان العيش في غيتو بجيش لا يختلط الا مع المحبطين الاغنياء من مجتمع اداروا له الظهر وبادلهم نفس الشعور.
وربما اختيار فلسطين، من بين مناطق ودول اخرى، كانت مرشحة لتشكيل وإقامة دولة اليهود، يشير ان المسألة لم تكن ذات طابع ديني، بقدر ما كان الامر يتعلق بالبحث عن ملجأ. فلسطين كانت المكان الاسهل، وليس الاختيار الديني، وبعد اختيارها ارضاً للميعاد، تم وضع الدراسات والابحاث والمبررات لهذا الاختيار، باعتباره اختياراً دينياً، وتم تزوير التاريخ من اجل تسهيل تقبل هذا التبرير.
ويقال ان اغتيال رئيس الحكومة الاسرائيلية الاسبق اسحق رابين، لم يتم لأنه وقع اتفاقيات سلام مع الفلسطينيين فحسب، بل لانه ضرب المبررات التي انشأها السلوك اليهودي لاختيار فلسطين وطناً لليهود، فالتبرير الجوهري كان يتضمن قيام دولة اليهود على ارض بلا شعب، رابين لتبرير توقيع اتفاق السلام مع الفلسطينيين، اشار الى ان على اليهود الاسرائيليين الادراك ان هناك شعباً آخر يعيش على نفس الارض، كانت هذه المقولة ضربة موجعة للتبرير اليهودي المصطنع، وكان على صاحبها ان يقتل خوفاً من قتل التبرير الذي قامت عليه اسرائيل.
وفي اطار فكرة السلوك اليهودي، بدلاً عن الديانة اليهودية، فاننا نعتقد ان دولة اسرائيل، وسكانها ستظل بحاجة دائمة الى الفلسطينيين، لا لشيء إلا لممارسة السلوك اليهودي، فالفلسطينيون باتوا هم الذين ترتد اليهم ردود الفعل الاسرائيلية اليهودية التي كان اليهود يمارسونها عندما كانوا اقلية في اوروبا، الآن يمارس هؤلاء السلوك اليهودي في اشعار الفلسطينيين، انهم دونهم مستوى، وكشكل من اشكال التعويض فإن اليهودي والاسرائيلي، ينتقم من فقدانه للكرامة في "غيتوات" اوروبا، باشعار الجار الفلسطيني، انه بات "يهودي" هذا العصر، مع فارق اساسي، وهو ان الفلسطيني لا يملك الثروة، ولا يملك وطناً بديلاً عن وطنه!!

شكرا أخي المدير العام مقالة جميلة جدا بارك الله فيك